فصل: كِتَابُ اللُّقَطَةِ:

مساءً 1 :3
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
28
الأحد
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.بَابُ الْبُغَاةِ.

الشَّرْحُ:
(بَابُ الْبُغَاةِ) أَخَّرَ هَذَا الْبَابَ عَنْ بَابِ الْمُرْتَدِّ لِقِلَّةِ وُجُودِهِ، وَالْبُغَاةُ جَمْعُ بَاغٍ كَالْقُضَاةِ جَمْعُ قَاضٍ، (وَإِذَا تَغَلَّبَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَلَدٍ وَخَرَجُوا مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ دَعَاهُمْ إلَى الْعَوْدِ إلَى الْجَمَاعَةِ وَكَشَفَ عَنْ شُبْهَتِهِمْ)؛ لِأَنَّ عَلِيًّا فَعَلَ كَذَلِكَ بِأَهْلِ حَرُورَاءَ قَبْلَ قِتَالِهِمْ، وَلِأَنَّهُ أَهْوَنُ الْأَمْرَيْنِ.
وَلَعَلَّ الشَّرَّ يَنْدَفِعُ بِهِ فَيُبْدَأُ بِهِ.
الشَّرْحُ:
وَإِذَا تَغَلَّبَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَلَدٍ وَخَرَجُوا مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ دَعَاهُمْ إلَى الْعَوْدِ إلَى الْجَمَاعَةِ وَكَشَفَ عَنْ شُبْهَتِهِمْ وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعَدْلِ لَوْ قَاتَلُوا مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ إلَى الْعَوْدِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا مَا يُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ.
فَحَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَحَالِ الْمُرْتَدِّينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ (لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِأَهْلِ حَرُورَاءَ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَمْدُودًا وَمَقْصُورًا: قَرْيَةٌ بِالْكُوفَةِ كَانَ بِهَا أَوَّلُ تَحْكِيمِ الْخَوَارِجِ وَاجْتِمَاعُهُمْ بِسَبَبِ تَحْكِيمِ عَلِيٍّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ قَائِلِينَ إنَّ الْقِتَالَ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} الْآيَةَ.
وَعَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ بِالتَّحْكِيمِ وَهُوَ كُفْرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} وَذَلِكَ أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْفَذَ ابْنَ عَبَّاسٍ لِيَكْشِفَ شُبْهَتَهُمْ وَيَدْعُوَهُمْ إلَى الْعَوْدِ، فَلَمَّا ذَكَرُوا شُبْهَتَهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هَذِهِ الْحَادِثَةُ لَيْسَتْ بِأَدْنَى مِنْ بَيْضِ حَمَامٍ، وَفِيهِ التَّحْكِيمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فَكَانَ تَحْكِيمُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُوَافِقًا لِلنَّصِّ فَأَلْزَمَهُمْ الْحُجَّةَ، فَتَابَ الْبَعْضُ وَأَصَرَّ الْبَعْضُ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. (وَلَا يَبْدَأُ بِقِتَالٍ حَتَّى يَبْدَءُوهُ، فَإِنْ بَدَءُوهُ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُفَرِّقَ جَمْعَهُمْ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ.
وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ عِنْدَنَا يَجُوزُ أَنْ يَبْدَأَ بِقِتَالِهِمْ إذَا تَعَسْكَرُوا وَاجْتَمَعُوا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَبْدَءُوا بِالْقِتَالِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُ الْمُسْلِمِ إلَّا دَفْعًا وَهُمْ مُسْلِمُونَ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْكُفْرِ مُبِيحٌ عِنْدَهُ.
وَلَنَا أَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى الدَّلِيلِ وَهُوَ الِاجْتِمَاعُ وَالِامْتِنَاعُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْتَظَرَ الْإِمَامُ حَقِيقَةَ قِتَالِهِمْ رُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ فَيُدَارُ عَلَى الدَّلِيلِ ضَرُورَةَ دَفْعِ شَرِّهِمْ، وَإِذَا بَلَغَهُ أَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ السِّلَاحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهُمْ وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ وَيُحْدِثُوا تَوْبَةً دَفْعًا لِلشَّرِّ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ لُزُومِ الْبَيْتِ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ عَدَمِ الْإِمَامِ، أَمَّا إعَانَةُ الْإِمَامِ الْحَقِّ فَمِنْ الْوَاجِبِ عِنْدَ الْغَنَاءِ وَالْقُدْرَةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ لُزُومِ الْبَيْتِ) يُرِيدُ بِهِ مَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفِتْنَةَ إذَا وَقَعَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَزِلَ الْفِتْنَةَ وَيَقْعُدَ فِي بَيْتِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ فَرَّ مِنْ الْفِتْنَةِ أَعْتَقَ اللَّهُ رَقَبَتَهُ مِنْ النَّارِ» (مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ عَدَمِ الْإِمَامِ) أَمَّا إذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى إمَامٍ وَكَانُوا آمِنِينَ بِهِ وَالسُّبُلُ آمِنَةٌ فَخَرَجَ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ يَقْوَى عَلَى الْقِتَالِ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ نَصْرًا لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} فَإِنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ. (فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ أُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَأُتْبِعَ مُوَلِّيهِمْ) دَفْعًا لِشَرِّهِمْ كَيْ لَا يَلْحَقُوا بِهِمْ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ لَمْ يُجْهَزْ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَمْ يُتْبَعْ مُوَلِّيهِمْ) لِانْدِفَاعِ الشَّرِّ دُونَهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ إذَا تَرَكُوهُ لَمْ يَبْقَ قَتْلُهُمْ دَفْعًا.
وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ دَلِيلُهُ لَا حَقِيقَتُهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (أُجْهِزَ وَأُتْبِعَ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، وَيُقَالُ أَجْهَزْت عَلَى الْجَرِيحِ إذَا أَسْرَعْت قَتْلَهُ وَتَمَّمْت عَلَيْهِ (وَلَا يُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ وَلَا يُقَسَّمُ لَهُمْ مَالٌ) لِقَوْلِ عَلِيٍّ يَوْمَ الْجَمَلِ: وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ وَلَا يُكْشَفُ سِتْرٌ وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ، وَهُوَ الْقُدْوَةُ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَقَوْلُهُ (فِي الْأَسِيرِ) تَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ يَقْتُلُ الْإِمَامُ الْأَسِيرَ، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَالْإِسْلَامُ يَعْصِمُ النَّفْسَ وَالْمَالَ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ) هُوَ مَقُولُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (وَلَا يُكْشَفُ سِتْرٌ) أَيْ لَا تُسْبَى نِسَاؤُهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلُوهُ قِسْمَةَ ذَلِكَ فَقَالَ: فَإِذَا قُسِمَتْ فَلِمَنْ تَكُونُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَالْقُدْوَةُ اسْمٌ لِلِاقْتِدَاءِ كَالْأُسْوَةِ اسْمٌ لِلِائْتِسَاءِ، يُقَالُ فُلَانٌ قُدْوَةٌ: أَيْ يُقْتَدَى بِهِ (قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا) إشَارَةٌ، إلَى قَوْلِهِ وَيَحْبِسُهُمْ إلَى قَوْلِهِ دَفْعًا لِلشَّرِّ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحِهِمْ إنْ احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ، وَالْكُرَاعُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ.
لَهُ أَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِرِضَاهُ.
وَلَنَا أَنَّ عَلِيًّا قَسَّمَ السِّلَاحَ فِيمَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ بِالْبَصْرَةِ وَكَانَتْ قِسْمَتُهُ لِلْحَاجَةِ لَا لِلتَّمْلِيكِ، وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي مَالِ الْعَادِلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَفِي مَالِ الْبَاغِي أَوْلَى وَالْمَعْنَى فِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ الْأَدْنَى لِدَفْعِ الْأَعْلَى. (وَيَحْبِسُ الْإِمَامُ أَمْوَالَهُمْ فَلَا يَرُدُّهَا عَلَيْهِمْ وَلَا يُقَسِّمُهَا حَتَّى يَتُوبُوا فَيَرُدَّهَا عَلَيْهِمْ) أَمَّا عَدَمُ الْقِسْمَةِ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ.
وَأَمَّا الْحَبْسُ فَلِدَفْعِ شَرِّهِمْ بِكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ وَلِهَذَا يَحْبِسُهَا عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا، إلَّا أَنَّهُ يَبِيعُ الْكُرَاعَ؛ لِأَنَّ حَبْسَ الثَّمَنِ أَنْظَرُ وَأَيْسَرُ، وَأَمَّا الرَّدُّ بَعْدَ التَّوْبَةِ فَلِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ وَلَا اسْتِغْنَامَ فِيهَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (أَمَّا عَدَمُ الْقِسْمَةِ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ: وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ، وَقَوْلُهُ (دلِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ). قَالَ: (وَمَا جَبَاهُ أَهْلُ الْبَغْيِ مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي غَلَبُوا عَلَيْهَا مِنْ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ لَمْ يَأْخُذْهُ الْإِمَامُ ثَانِيًا)؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَخْذِ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْحِمَايَةِ وَلَمْ يَحْمِهِمْ (فَإِنْ كَانُوا صَرَفُوهُ فِي حَقِّهِ أَجْزَأَ مَنْ أُخِذَ مِنْهُ) لِوُصُولِ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ (وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا صَرَفُوهُ فِي حَقِّهِ فَعَلَى أَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُعِيدُوا ذَلِكَ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى مُسْتَحِقِّهِ.
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: قَالُوا الْإِعَادَةُ عَلَيْهِمْ فِي الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهُمْ مُقَاتِلَةٌ فَكَانُوا مَصَارِفَ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَفِي الْعُشْرِ إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الزَّكَاةِ.
وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ يَحْمِيهِمْ فِيهِ؛ لِظُهُورِ وِلَايَتِهِ. (وَمَنْ قَتَلَ رَجُلًا وَهُمَا مِنْ عَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ)؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِإِمَامِ الْعَدْلِ حِينَ الْقَتْلِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا كَالْقَتْلِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. (وَإِنْ غَلَبُوا عَلَى مِصْرٍ فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ عَمْدًا ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى الْمِصْرِ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ) وَتَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَجْرِ عَلَى أَهْلِهِ أَحْكَامُهُمْ وَأُزْعِجُوا قَبْلَ ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ لَمْ تَنْقَطِعْ وِلَايَةُ الْإِمَامِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ (وَأُزْعِجُوا) يَعْنِي أُقْلِعَ أَهْلُ الْبَغْيِ مِنْ الْمِصْرِ (قَبْلَ ذَلِكَ) أَيْ قَبْلَ إجْرَاءِ أَحْكَامِهِمْ عَلَى أَهْلِهِ. (وَإِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ بَاغِيًا فَإِنَّهُ يَرِثُهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ الْبَاغِي وَقَالَ قَدْ كُنْت عَلَى حَقٍّ وَأَنَا الْآنَ عَلَى حَقٍّ وَرِثَهُ، وَإِنْ قَالَ قَتَلْته وَأَنَا أَعْلَمُ أَنِّي عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ يَرِثْهُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَرِثُ الْبَاغِي فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَأَصْلُهُ أَنَّ الْعَادِلَ إذَا أَتْلَفَ نَفْسَ الْبَاغِي أَوْ مَالَهُ لَا يَضْمَنُ وَلَا يَأْثَمُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقِتَالِهِمْ دَفْعًا لِشَرِّهِمْ، وَالْبَاغِي إذَا قَتَلَ الْعَادِلَ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عِنْدَنَا وَيَأْثَمُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْقَدِيمِ: إنَّهُ يَجِبُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا تَابَ الْمُرْتَدُّ، وَقَدْ أَتْلَفَ نَفْسًا أَوْ مَالًا.
لَهُ أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مَعْصُومًا أَوْ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً فَيَجِبُ الضَّمَانُ اعْتِبَارًا بِمَا قَبْلَ الْمَنَعَةِ.
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ.
وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَنْ تَأْوِيلٍ فَاسِدٍ، وَالْفَاسِدُ مِنْهُ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ إذَا ضُمَّتْ إلَيْهِ الْمَنَعَةُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ كَمَا فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَتَأْوِيلِهِمْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لابد فِيهَا مِنْ الْإِلْزَامِ أَوْ الِالْتِزَامِ، وَلَا الْتِزَامَ لِاعْتِقَادِ الْإِبَاحَةِ عَنْ تَأْوِيلٍ، وَلَا إلْزَامَ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ، وَالْوِلَايَةُ بَاقِيَةٌ قَبْلَ الْمَنَعَةِ وَعِنْدَ عَدَمِ التَّأْوِيلِ ثَبَتَ الِالْتِزَامُ اعْتِقَادًا، بِخِلَافِ الْإِثْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنَعَةَ فِي حَقِّ الشَّارِعِ، إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَتْلُ الْعَادِلِ الْبَاغِيَ قَتْلٌ بِحَقٍّ فَلَا يَمْنَعُ الْإِرْثَ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَتْلِ الْبَاغِي الْعَادِلَ أَنَّ التَّأْوِيلَ الْفَاسِدَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ وَالْحَاجَةُ هَاهُنَا إلَى اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ فَلَا يَكُونُ التَّأْوِيلُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْإِرْثِ.
وَلَهُمَا فِيهِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى دَفْعِ الْحِرْمَانِ أَيْضًا، إذْ الْقَرَابَةُ سَبَبُ الْإِرْثِ فَيُعْتَبَرُ الْفَاسِدُ فِيهِ، إلَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ بَقَاءَهُ عَلَى دِيَانَتِهِ، فَإِذَا قَالَ: كُنْت عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ يُوجَدْ الدَّافِعُ فَوَجَبَ الضَّمَانُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ فِي الْوَجْهِ الَّذِي قَالَ أَنَا عَلَى الْحَقِّ وَفِي الْوَجْهِ الَّذِي قَالَ أَنَا عَلَى الْبَاطِلِ وَقَوْلُهُ (رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ) قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مُتَوَافِرِينَ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَكُلُّ فَرْجٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَكُلُّ مَالٍ أُتْلِفَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ.
قَوْلُهُ (وَلَا الْتِزَامَ لِاعْتِقَادِ الْإِبَاحَةِ) يَعْنِي أَنَّ الْبَاغِيَ اعْتَقَدَ إبَاحَةَ أَمْوَالِ الْعَادِلِ بِأَنَّ الْعَادِلَ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمُوجَبِ الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَهُمَا فِيهِ) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَتْلِ الْبَاغِي الْعَادِلِ.
وَقَوْلُهُ (فَيُعْتَبَرُ الْفَاسِدُ) أَيْ يُعْتَبَرُ التَّأْوِيلُ الْفَاسِدُ فِي دَفْعِ الْحِرْمَانِ.
وَقَوْلُهُ (لَمْ يُوجَدْ الدَّافِعُ) أَيْ التَّأْوِيلُ الدَّافِعُ لِلضَّمَانِ. قَالَ (وَيُكْرَهُ بَيْعُ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ وَفِي عَسَاكِرِهِمْ)؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ (وَلَيْسَ بِبَيْعِهِ بِالْكُوفَةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ بَأْسٌ)؛ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ فِي الْأَمْصَارِ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ بَيْعُ نَفْسِ السِّلَاحِ لَا بَيْعُ مَا لَا يُقَاتَلُ بِهِ إلَّا بِصَنْعَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُكْرَهُ بَيْعُ الْمَعَازِفِ وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ الْخَشَبِ، وَعَلَى هَذَا الْخَمْرُ مَعَ الْعِنَبِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَ بِبَيْعِهِ بِالْكُوفَةِ) تَقْيِيدُهُ بِالْكُوفَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْبُغَاةَ خَرَجُوا فِيهَا أَوَّلًا وَإِلَّا فَالْحُكْمُ فِي غَيْرِهَا كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا بِالصَّنْعَةِ) بِهِ يُرِيدُ الْحَدِيدَ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ سِلَاحًا بِفِعْلِ غَيْرِهِ فَلَا يُنْسَبُ إلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُكْرَهُ بَيْعُ الْمَعَازِفِ قِيلَ جَمْعُ مِعْزَفٍ ضَرْبٌ مِنْ الطَّنَابِيرِ يَتَّخِذُهُ أَهْلُ الْيَمِينِ (وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ الْخَشَبِ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مِعْزَفًا بِفِعْلِ غَيْرِهِ.
قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا بَيْعُ الْخَمْرِ مَعَ الْعِنَبِ) أَيْ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْعِنَبِ، وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ كَرَاهَةِ بَيْعِ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ وَعَدَمِ كَرَاهَةِ بَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا سَيَأْتِي فِي بَابِ الْكَرَاهَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

.كِتَابُ اللَّقِيطِ:

اللَّقِيطُ سُمِّيَ بِهِ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ لِمَا أَنَّهُ يُلْقَطُ.
وَالِالْتِقَاطُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَائِهِ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ضَيَاعُهُ فَوَاجِبٌ.
قَالَ (اللَّقِيطُ حُرٌّ)؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ إنَّمَا هُوَ الْحُرِّيَّةُ، وَكَذَا الدَّارُ دَارُ الْأَحْرَارِ؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ اللَّقِيطِ لَمَّا كَانَ فِي الِالْتِقَاطِ دَفْعُ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِ الْمُلْتَقِطِ ذَكَرَهُ عَقِيبَ الْجِهَادِ الَّذِي فِيهِ دَفْعُ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَاللَّقِيطُ: اسْمٌ لِشَيْءٍ مَنْبُوذٍ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْجَرِيحِ وَفِي الشَّرِيعَةِ اسْمٌ لِحَيٍّ مَوْلُودٍ طَرَحَهُ أَهْلُهُ خَوْفًا مِنْ الْعَيْلَةِ أَوْ فِرَارًا مِنْ تُهْمَةِ الزِّنَا، مُضَيِّعُهُ آثِمٌ وَمُحْرِزُهُ غَانِمٌ لِأَنَّ فِيهِ الْإِحْيَاءَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} فَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَانَ تَسْمِيَةَ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ لِمَا أَنَّهُ يُلْتَقَطُ وَهُوَ حُرٌّ أَيْ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ حَتَّى أَنَّ قَاذِفَهُ يُحَدُّ وَقَاذِفَ أُمِّهِ لَا يُحَدُّ، كَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ الْحُرِّيَّةُ) لِأَنَّهُمْ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَهُمَا حُرَّانِ.
وَالرِّقُّ إنَّمَا هُوَ لِعَارِضِ الْكُفْرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْعَارِضِ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ وَالْغَالِبُ فِيمَنْ يَسْكُنُ بِلَادَ الْإِسْلَامِ الْحُرِّيَّةُ. (وَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ) هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ عَاجِزٌ عَنْ التَّكَسُّبِ، وَلَا مَالَ لَهُ وَلَا قَرَابَةَ فَأَشْبَهَ الْمُقْعَدَ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا قَرَابَةَ؛ وَلِأَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَالْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَلِهَذَا كَانَتْ جِنَايَتُهُ فِيهِ.
وَالْمُلْتَقِطُ مُتَبَرِّعٌ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ؛ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْقَاضِي بِهِ لِيَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ لِعُمُومِ الْوِلَايَةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: اللَّقِيطُ حُرٌّ وَعَقْلُهُ وَوَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُهُ.
وَقَوْلُهُ (وَالْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ) أَيْ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ، كَغَلَّةِ الْعَبْدِ الْمَعِيبِ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ الرَّدِّ لِأَنَّهُ قَبْلَ الرَّدِّ فِي ضَمَانِهِ، يُقَالُ خَرَاجُ غُلَامِهِ: إذَا اتَّفَقَا عَلَى ضَرِيبَةٍ يُؤَدِّيهَا عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ.
وَقَوْلُهُ (فِيهِ) أَيْ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَيُقَالُ بَرَعَ الرَّجُلُ وَبَرُعَ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ: إذَا فَضُلَ عَلَى أَقْرَانِهِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْمُتَفَضِّلِ الْمُتَبَرِّعُ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْقَاضِي لِيَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ لِعُمُومِ الْوِلَايَةِ) فِي قَوْلِهِ لِيَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ دَيْنًا إذَا قَالَ ذَلِكَ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: مُجَرَّدُ أَمْرِ الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ يَكْفِي، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ، لِأَنَّ أَمْرَ الْقَاضِي نَافِذٌ عَلَيْهِ كَأَمْرِهِ بِنَفْسِهِ أَنْ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ وَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ كَانَ مَا يُنْفِقُ دَيْنًا عَلَيْهِ، فَكَذَا إذَا أَمَرَهُ الْقَاضِي.
وَالْأَصَحُّ أَنْ لَا يَرْجِعَ مَا لَمْ يَقُلْ الْقَاضِي ذَلِكَ لِأَنَّ مُطْلَقَهُ مُحْتَمَلٌ قَدْ يَكُونُ لِلْحَثِّ وَالتَّرْغِيبِ فِي إتْمَامِ مَا شَرَعَ فِيهِ مِنْ التَّبَرُّعِ، وَإِنَّمَا يَزُولُ هَذَا الِاحْتِمَالُ إذَا شُرِطَ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ. قَالَ (فَإِنْ الْتَقَطَهُ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ)؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ حَقُّ الْحِفْظِ لَهُ لِسَبْقِ يَدِهِ (فَإِنْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ ابْنُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ).
مَعْنَاهُ: إذَا لَمْ يَدَّعِ الْمُلْتَقِطُ نَسَبَهُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الْمُلْتَقِطِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إقْرَارٌ لِلصَّبِيِّ بِمَا يَنْفَعُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَشَرَّفُ بِالنَّسَبِ وَيُعَيَّرُ بِعَدَمِهِ.
ثُمَّ قِيلَ يَصِحُّ فِي حَقِّهِ دُونَ إبْطَالِ يَدِ الْمُلْتَقِطِ.
وَقِيلَ يُبْتَنَى عَلَيْهِ بُطْلَانُ يَدِهِ، وَلَوْ ادَّعَاهُ الْمُلْتَقِطُ قِيلَ يَصِحُّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ وَقَدْ عُرِفَ فِي الْأَصْلِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (مَعْنَاهُ: إذَا لَمْ يَدَّعِ الْمُلْتَقِطُ نَسَبَهُ) يَعْنِي إذَا ادَّعَاهُ الْمُلْتَقِطُ وَرَجُلٌ آخَرُ فَالْمُلْتَقِطُ أَوْلَى لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الدَّعْوَى وَلِأَحَدِهِمَا يَدٌ فَكَانَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ قِيلَ يَصِحُّ فِي حَقِّهِ) أَيْ فِي حَقِّ النَّسَبِ، وَقِيلَ يُبْتَنَى عَلَيْهِ بُطْلَانُ يَدِهِ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَحَقَّ بِحِفْظِ وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ ادَّعَاهُ الْمُلْتَقِطُ) أَيْ وَلَوْ ادَّعَى الْمُلْتَقِطُ نَسَبَ اللَّقِيطِ وَقَالَ هُوَ ابْنِي بَعْدَمَا قَالَ إنَّهُ لَقِيطٌ، قِيلَ يَصِحُّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ لَمْ يَبْطُلْ بِدَعْوَاهُ حَقُّ أَحَدٍ وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِي ذَلِكَ (وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ) أَيْ عَلَى اخْتِلَافِ حُكْمِ الْقِيَاسِ مَعَ حُكْمِ الِاسْتِحْسَانِ: يَعْنِي فِي الْقِيَاسِ لَا يَصِحُّ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَصِحُّ كَمَا فِي دَعْوَى غَيْرِ الْمُلْتَقِطِ، لَكِنَّ وَجْهَ الْقِيَاسِ هَاهُنَا غَيْرُ وَجْهِ الْقِيَاسِ فِي دَعْوَى غَيْرِ الْمُلْتَقِطِ.
وَوَجْهُ الْقِيَاسِ فِي دَعْوَى غَيْرِ الْمُلْتَقِطِ هُوَ تَضَمُّنُ إبْطَالِ حَقِّ الْمُلْتَقِطِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ.
وَوَجْهُ الْقِيَاسِ فِي دَعْوَى الْمُلْتَقِطِ هُوَ تَنَاقُضُ كَلَامِهِ بِأَنَّهُ لَمَّا زَعَمَ أَنَّهُ لَقِيطٌ كَانَ نَافِيًا نَسَبَهُ لِأَنَّ ابْنَهُ لَا يَكُونُ لَقِيطًا فِي يَدِهِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ فَكَانَ مُنَاقِضًا.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَصِحُّ دَعْوَاهُ لِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ حَيْثُ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَهُ فَهُوَ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ يَكْتَسِبُ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ، وَبِالِالْتِقَاطِ يَثْبُتُ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ.
وَقَوْلُهُ (إنَّهُ مُتَنَاقِضٌ) قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنْ فِيمَا طَرِيقُهُ الْخَفَاءُ قَدْ يَشْتَبِهُ عَلَى النَّاسِ حَالُ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَقِيطٌ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ وَلَدُهُ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ النَّسَبِ كَالْمُلَاعِنِ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ (وَإِنْ ادَّعَاهُ اثْنَانِ وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ)؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ لِمُوَافَقَةِ الْعَلَامَةِ كَلَامَهُ، وَإِنْ لَمْ يَصِفْ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فَهُوَ ابْنُهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ.
وَلَوْ سَبَقَتْ دَعْوَةُ أَحَدِهِمَا فَهُوَ ابْنُهُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي زَمَانٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ إلَّا إذَا أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَقْوَى.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ ادَّعَاهُ اثْنَانِ وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ) أَيْ يَجِبُ عَلَى الْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَ اللَّقِيطَ إلَى الَّذِي وَصَفَ عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ وَأَصَابَ فِي وَصْفِهِ لِأَنَّ الْوَاصِفَ أَوْلَى بِذَلِكَ اللَّقِيطِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّقِيطِ وَاللُّقَطَةِ فَإِنَّ اللُّقَطَةَ إذَا تَنَازَعَ فِيهِ اثْنَانِ وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا وَأَصَابَ وَلَمْ يَصِفْ الْآخَرُ فَإِنَّهُ لَا يُقْضَى لِصَاحِبِ الْوَصْفِ، بَلْ إذَا انْفَرَدَ الْوَاصِفُ يَحِلُّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُهُ وَهَاهُنَا يَلْزَمُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ الْإِصَابَةَ بِوَصْفِ أَمْرٍ مُحْتَمَلٍ، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَصَابَ لِأَنَّهُ لَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَصَابَ لِأَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْغَيْرِ لَكِنَّهُ يَصْلُحُ مُرَجِّحًا لِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ كَالْيَدِ فِي دَعْوَى النِّتَاجِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي فَصْلِ اللَّقِيطِ: قَدْ وُجِدَ مَا هُوَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الدَّعْوَةُ لِأَنَّهَا سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ فِي حَقِّ اللَّقِيطِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ بِدَعْوَى اللَّقِيطِ قَضَى لَهُ بِهِ كَمَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَيُعْتَبَرُ الْوَصْفُ لِيَتَرَجَّحَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ، وَأَمَّا فِي اللُّقَطَةِ فَالدَّعْوَى لَيْسَتْ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ حَتَّى يَتَرَجَّحَ بِالْوَصْفِ، فَلَوْ اُعْتُبِرَ الْوَصْفُ اُعْتُبِرَ لِأَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْوَصْفُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لَهُ فَافْتَرَقَا. (وَإِذَا وُجِدَ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ فَادَّعَى ذِمِّيٌّ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ مُسْلِمًا) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ تَضْمَنُ النَّسَبَ وَهُوَ نَافِعٌ لِلصَّغِيرِ، وَإِبْطَالُ الْإِسْلَامِ الثَّابِتِ بِالدَّارِ وَهُوَ يَضُرُّهُ فَصَحَّتْ دَعْوَتُهُ فِيمَا يَنْفَعُهُ دُونَ مَا يَضُرُّهُ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ (وَإِنْ وُجِدَ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ.
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْحَاصِلِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَجِدَهُ مُسْلِمٌ فِي مَكَانِ الْمُسْلِمِينَ كَالْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِ فَيَكُونُ مَحْكُومًا لَهُ بِالْإِسْلَامِ.
وَالثَّانِي أَنْ يَجِدَهُ كَافِرٌ فِي مَكَانِ أَهْلِ الْكُفْرِ كَالْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ فَيَكُونُ مَحْكُومًا لَهُ بِالْكُفْرِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إذَا مَاتَ.
وَالثَّالِثُ أَنْ يَجِدَهُ كَافِرٌ فِي مَكَانِ الْمُسْلِمِينَ وَالرَّابِعُ أَنْ يَجِدَهُ مُسْلِمٌ فِي مَكَانِ الْكَافِرِينَ، فَفِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ.
فَفِي كِتَابِ اللَّقِيطِ يَقُولُ: الْعِبْرَةُ لِلْمَكَانِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا.
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْوَاجِدِ بِالْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. (وَإِنْ وُجِدَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ فِي بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ كَانَ ذِمِّيًّا) وَهَذَا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَاجِدُ ذِمِّيًّا رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَ الْوَاجِدُ مُسْلِمًا فِي هَذَا الْمَكَانِ أَوْ ذِمِّيًّا فِي مَكَانِ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ، فَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ اللَّقِيطِ اُعْتُبِرَ الْمَكَانُ لِسَبْقِهِ، وَفِي كِتَابِ الدَّعْوَى فِي بَعْضِ النُّسَخِ اُعْتُبِرَ الْوَاجِدُ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ لِقُوَّةِ الْيَدِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ تَبَعِيَّةَ الْأَبَوَيْنِ فَوْقَ تَبَعِيَّةِ الدَّارِ حَتَّى إذَا سُبِيَ مَعَ الصَّغِيرِ أَحَدُهُمَا يُعْتَبَرُ كَافِرًا، وَفِي بَعْضِ نُسَخِهِ اُعْتُبِرَ الْإِسْلَامُ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فِي بَعْضِ النُّسَخِ) أَيْ فِي بَعْضِ نُسَخِ دَعْوَى الْمَبْسُوطِ. (وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ اللَّقِيطَ عَبْدُهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ)؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ ظَاهِرًا إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ (فَإِنْ ادَّعَى عَبْدٌ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ)؛ لِأَنَّهُ يَنْفَعُهُ (وَكَانَ حُرًّا)؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ قَدْ تَلِدُ لَهُ الْحُرَّةُ فَلَا تَبْطُلُ الْحُرِّيَّةُ الظَّاهِرَةُ بِالشَّكِّ (وَالْحُرُّ فِي دَعْوَتِهِ اللَّقِيطَ أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ، وَالْمُسْلِمُ أَوْلَى مِنْ الذِّمِّيِّ) تَرْجِيحًا لِمَا هُوَ الْأَنْظَرُ فِي حَقِّهِ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ اللَّقِيطَ عَبْدُهُ ظَاهِرٌ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى خَصْمٍ مُنْكِرٍ وَلَا خَصْمَ هَاهُنَا لِأَنَّ الْمُلْتَقِطَ لَيْسَ بِوَلِيٍّ فَلَا يَكُونُ خَصْمًا عَنْهُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْخَصْمَ هُوَ الْمُلْتَقِطُ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ عَنْهُ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ أَحَقُّ بِحِفْظِهِ فَلَا يَتَوَصَّلُ الْمُدَّعِي إلَى اسْتِحْقَاقِ يَدِهِ عَلَيْهِ إلَّا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ ادَّعَى عَبْدٌ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ لِأَنَّ دَعْوَاهُ تَضَمَّنَتْ شَيْئَيْنِ: النَّسَبُ وَهُوَ نَفْعٌ لِلصَّبِيِّ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ الشَّرَفُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَالرِّقُّ وَهُوَ مَضَرَّةٌ فَيَثْبُتُ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَسْتَلْزِمُهُ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ قَدْ تَلِدُ لَهُ الْحُرَّةُ فَلَا تَبْطُلُ لَهُ الْحُرِّيَّةُ الظَّاهِرَةُ بِالشَّكِّ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَرَّرَ بِجَعْلِ كَلَامِهِ دَلِيلَيْنِ عَلَى مَطْلُوبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ لِأَنَّهُ يَنْفَعُهُ، وَكُلُّ مَا يَنْفَعُهُ يَثْبُتُ لَهُ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ حُرٌّ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ قَدْ تَلِدُ لَهُ الْحُرَّةُ فَلَا يَكُونُ عَبْدًا، وَقَدْ تَلِدُ لَهُ الْأَمَةُ فَيَكُونُ عَبْدًا، وَالظَّاهِرُ فِي بَنِي آدَمَ الْحُرِّيَّةُ فَلَا تَبْطُلُ بِالشَّكِّ.
قَالَ (وَالْحُرُّ فِي دَعْوَتِهِ اللَّقِيطَ أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ) إذَا ادَّعَى اللَّقِيطَ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَهُمَا خَارِجَانِ أَوْ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ وَهُمَا خَارِجَانِ دَعْوَى مُجَرَّدَةً فَالْحُرُّ أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ وَالْمُسْلِمُ أَوْلَى مِنْ الذِّمِّيِّ، وَكَذَلِكَ إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا أَكْثَرَ إثْبَاتًا، حَتَّى لَوْ شَهِدَ لِلْمُسْلِمِ ذِمِّيَّانِ وَلِلذِّمِّيِّ مُسْلِمَانِ كَانَ لِلْمُسْلِمِ لِأَنَّ بَيِّنَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْآخَرِ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا أَكْثَرَ إثْبَاتًا فَكَانَ الْمُسْلِمُ أَوْلَى.
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ بَيِّنَةُ الَّذِي أَكْثَرَ إثْبَاتًا فَلَا يُعْتَبَرُ التَّرْجِيحُ بِالْإِسْلَامِ، فَلَوْ ادَّعَى الذِّمِّيُّ صَبِيًّا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ ابْنُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْنِ مُسْلِمَيْنِ وَأَقَامَ عَبْدٌ مُسْلِمٌ بَيِّنَةً أَنَّهُ ابْنُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ قُضِيَ لِلذِّمِّيِّ بِالصَّبِيِّ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ الْعَبْدُ بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الذِّمِّيِّ أَكْثَرُ إثْبَاتًا لِأَنَّهَا تُثْبِتُ النَّسَبَ بِجَمِيعِ أَحْكَامِهِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْمُلْتَقِطِ وَالْخَارِجِ فَالتَّرْجِيحُ بِالْيَدِ لِقُوَّتِهَا، فَإِنَّ الْمُلْتَقِطَ إذَا كَانَ ذِمِّيًّا فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْمُسْلِمِ الْخَارِجِ (وَإِنْ وُجِدَ مَعَ اللَّقِيطِ مَالٌ مَشْدُودٌ عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُ) اعْتِبَارًا لِلظَّاهِرِ.
وَكَذَا إذَا كَانَ مَشْدُودًا عَلَى دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَيْهَا لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ يَصْرِفُهُ الْوَاجِدُ إلَيْهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ وَلِلْقَاضِي وِلَايَةُ صَرْفِ مِثْلِهِ إلَيْهِ.
وَقِيلَ يَصْرِفُهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ لِلَّقِيطِ ظَاهِرًا (وَلَهُ وِلَايَةُ الْإِنْفَاقِ وَشِرَاءُ مَا لابد لَهُ مِنْهُ) كَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْإِنْفَاقِ.
الشَّرْحُ:
(وَإِذَا وُجِدَ مَعَ اللَّقِيطِ مَالٌ مَشْدُودٌ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى دَابَّةٍ هُوَ عَلَيْهَا فَهُوَ لَهُ) وَكَذَا الدَّابَّةُ (اعْتِبَارًا لِلظَّاهِرِ) لِأَنَّ اللَّقِيطَ لَمَّا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ حُرًّا مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، فَمَا كَانَ مَعَهُ فَهُوَ لَهُ ظَاهِرًا لِعَدَمِ الْيَدِ الثَّابِتَةِ عَلَيْهِ كَالْقَمِيصِ الَّذِي عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الظَّاهِرُ يَكْفِي لِلدَّفْعِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ، فَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلَّقِيطِ بِهَذَا الظَّاهِرِ كَانَ الظَّاهِرُ حُجَّةً مُثْبِتَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا الظَّاهِرَ يَدْفَعُ دَعْوَى الْغَيْرِ (قَوْلُهُ ثُمَّ يَصْرِفُهُ الْوَاجِدُ إلَيْهِ) ظَاهِرٌ. (وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمُلْتَقِطِ) لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ مِنْ الْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ وَالسَّلْطَنَةِ. قَالَ (وَلَا تَصَرُّفُهُ فِي مَالِ الْمُلْتَقِطِ) اعْتِبَارًا بِالْأُمِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ لِتَثْمِيرِ الْمَالِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالرَّأْيِ الْكَامِلِ وَالشَّفَقَةِ الْوَافِرَةِ وَالْمَوْجُودُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدُهُمَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالْمَوْجُودُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ الْمُلْتَقِطِ وَالْأُمِّ (أَحَدُهُمَا) لِأَنَّ لِلْمُلْتَقِطِ رَأْيًا كَامِلًا وَلَا شَفَقَةَ لَهُ، وَلِلْأُمِّ شَفَقَةٌ كَامِلَةٌ وَلَا رَأْيَ لَهَا قَالَ: (وَيَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَ لَهُ الْهِبَةَ)؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الصَّغِيرُ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ عَاقِلًا وَتَمْلِكُهُ الْأُمُّ وَوَصِيُّهَا. قَالَ (وَيُسَلِّمُهُ فِي صِنَاعَةٍ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ تَثْقِيفِهِ وَحِفْظِ حَالِهِ.
قَالَ (وَيُؤَاجِرُهُ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: وَهَذَا رِوَايَةُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ، ذَكَرَهُ فِي الْكَرَاهِيَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَثْقِيفِهِ.
وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إتْلَافَ مَنَافِعِهِ فَأَشْبَهَ الْعَمَّ.
بِخِلَافِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي الْكَرَاهِيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ تَثْقِيفِهِ) التَّثْقِيفُ تَقْوِيمُ الْمُعْوَجِّ بِالثِّقَافِ وَهُوَ مَا يُسَوَّى بِهِ الرِّمَاحُ وَيُسْتَعَارُ لِلتَّأْدِيبِ وَالتَّهْذِيبِ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْأُمِّ لِأَنَّهَا تَمْلِكُهُ) أَيْ تَمْلِكُ إتْلَافَ مَنَافِعِهِ فَإِنَّهَا تَمْلِكُ اسْتِخْدَامَ وَلَدِهَا وَإِجَارَتَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.كِتَابُ اللُّقَطَةِ:

قَالَ (اللُّقَطَةُ أَمَانَةٌ إذَا أَشْهَدَ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا لِيَحْفَظَهَا وَيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا) لِأَنَّ الْأَخْذَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا بَلْ هُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الْوَاجِبُ إذَا خَافَ الضَّيَاعَ عَلَى مَا قَالُوا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إذَا تَصَادَقَا أَنَّهُ أَخَذَهَا لِلْمَالِكِ لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا فَصَارَ كَالْبَيِّنَةِ، وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَبِغَيْرِ إذْنِ الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ عَلَيْهِ وَقَالَ الْآخِذُ أَخَذْته لِلْمَالِكِ وَكَذَّبَهُ الْمَالِكُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَضْمَنُ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ لِاخْتِيَارِهِ الْحِسْبَةَ دُونَ الْمَعْصِيَةِ، وَلَهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ وَادَّعَى مَا يُبَرِّئُهُ وَهُوَ الْأَخْذُ لِمَالِكِهِ وَفِيهِ وَقَعَ الشَّكُّ فَلَا يَبْرَأُ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الظَّاهِرِ يُعَارِضُهُ مِثْلُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَرِّفُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَيَكْفِيهِ فِي الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ مَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَنْشُدُ لُقَطَةً فَدُلُّوهُ عَلَيَّ وَاحِدَةً كَانَتْ اللُّقَطَةُ أَوْ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ اللُّقَطَةِ اللَّقِيطُ وَاللُّقَطَةُ مُتَقَارِبَانِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَخُصَّ اللَّقِيطُ بِبَنِي آدَمَ وَاللُّقَطَةُ بِغَيْرِهِمْ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا، وَقُدِّمَ الْأَوَّلُ لِشَرَفِ بَنِي آدَمَ عَلَى اللُّقَطَةِ وَهِيَ الشَّيْءُ الَّذِي يَجِدُهُ مُلْقًى فَيَأْخُذُهُ أَمَانَةً (إذَا أَشْهَدَ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا لِيَحْفَظَهَا وَيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا) لِأَنَّ الْأَخْذَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا بَلْ هُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ قَوْلُهُ بَلْ هُوَ أَفْضَلُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ وَذَلِكَ حَرَامٌ شَرْعًا وَعَنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ أَخْذُهُ جَائِزٌ وَتَرْكُهُ أَفْضَلُ لِأَنَّ صَاحِبَهَا إنَّمَا يَطْلُبُهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي سَقَطَتْ مِنْهُ، فَإِذَا تَرَكَهَا وَجَدَهَا صَاحِبُهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ (قَوْلُهُ وَهُوَ الْوَاجِبُ إذَا خَافَ الضَّيَاعَ عَلَى مَا قَالُوا) وَالْحَاصِلُ أَنَّ اللُّقَطَةَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ عَلَى نَوْعَيْنِ: مَا يَكُونُ أَخْذُهُ وَاجِبًا وَهُوَ مَا إذَا خَافَ الضَّيَاعَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وَإِذَا كَانَ وَلِيًّا وَجَبَ عَلَيْهِ حِفْظُ مَالِهِ، وَبِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ مَالِهِ، فَإِذَا خَافَ عَلَى مَالِهِ الضَّيَاعَ وَجَبَ حِفْظُهُ، فَكَذَلِكَ إذَا خَافَ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ وَمَا لَا يَكُونُ أَخْذُهُ وَاجِبًا، وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَخَفْ الضَّيَاعَ فَقِيلَ رَفْعُهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَلِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَصِلَ إلَيْهَا يَدٌ خَائِنَةٌ فَتَمْنَعَهَا عَنْ مَالِكِهَا.
وَقِيلَ تَرْكُهُ أَفْضَلُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ صَاحِبَهَا إنَّمَا يَطْلُبُهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي سَقَطَتْ مِنْهُ وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ (وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ) أَيْ إذَا كَانَ أَخْذُهَا مَأْذُونًا فِيهِ شَرْعًا (لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ) كَذَا وَكَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ وَهُوَ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ إذَا تَصَادَقَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ وَإِذَا أَشْهَدَ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا إلَخْ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ لِنَفْسِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَإِذَا كَانَتْ أَمَانَةً لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا تَصَادَقَ الْمُلْتَقِطُ وَالْمَالِكُ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِلْمَالِكِ لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا وَصَارَ كَمَا إذَا أَقَامَ الْمُلْتَقِطُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِيُوَصِّلَهَا إلَى الْمَالِكِ (وَلَوْ أَقَرَّ) الْمُلْتَقِطُ (أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ أَخْذُ مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَبِغَيْرِ إذْنِ الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ عَلَيْهِ وَقَالَ الْآخِذُ أَخَذْتهَا لِلْمَالِكِ وَكَذَّبَهُ الْمَالِكُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَضْمَنُ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ) أَمَّا عَدَمُ الضَّمَانِ فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ لِاخْتِيَارِهِ الْحِسْبَةَ دُونَ الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا، وَاَلَّذِي يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا الْأَخْذُ لِلرَّدِّ لَا لِنَفْسِهِ فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ فِعْلِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِشْهَادِ مِنْهُ، وَأَمَّا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فَلِأَنَّ صَاحِبَهَا يَدَّعِي عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ وَوُجُوبَ الْقِيمَةِ فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ كَمَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ الْغَصْبَ.
وَقَوْلُهُ (وَلَهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ) ظَاهِرٌ، قِيلَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْإِشْهَادِ فِيمَا إذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَشْهَدَ، أَمَّا إذَا لَمْ يَجِدْ أَحَدًا يُشْهِدُهُ عِنْدَ الرَّفْعِ أَوْ خَافَ أَنَّهُ لَوْ أَشْهَدَ عِنْدَ الرَّفْعِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ الظَّالِمُ فَتَرَكَ الْإِشْهَادَ لَا يَكُونُ ضَامِنًا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ وَجَدَ مَنْ يُشْهِدُهُ فَلَمْ يُشْهِدْهُ حَتَّى جَاوَزَهُ ضَمِنَ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْإِشْهَادَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ (وَيَكْفِي فِي الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ) ظَاهِرٌ. قَالَ (فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَرَّفَهَا أَيَّامًا، وَإِنْ كَانَتْ عَشْرَةً فَصَاعِدًا عَرَّفَهَا حَوْلًا) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَوْلُهُ (أَيَّامًا مَعْنَاهُ)عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى.
وَقَدَّرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ بِالْحَوْلِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ الْتَقَطَ شَيْئًا فَلْيُعَرِّفْهُ سَنَةً مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ».
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْحَوْلِ وَرَدَ فِي لُقَطَةٍ كَانَتْ مِائَةَ دِينَارٍ تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَالْعَشَرَةُ وَمَا فَوْقَهَا فِي مَعْنَى الْأَلْفِ فِي تَعَلُّقِ الْقَطْعِ بِهِ فِي السَّرِقَةِ وَتَعَلُّقِ اسْتِحْلَالِ الْفَرْجِ بِهِ وَلَيْسَتْ فِي مَعْنَاهَا فِي حَقِّ تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ، فَأَوْجَبْنَا التَّعْرِيفَ بِالْحَوْلِ احْتِيَاطًا، وَمَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْأَلْفِ بِوَجْهٍ مَا فَفَوَّضْنَا إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ وَقِيلَ الصَّحِيحُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَيُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْمُلْتَقِطِ يُعَرِّفُهَا إلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ شَيْئًا لَا يَبْقَى عَرَّفَهُ حَتَّى إذَا خَافَ أَنْ يَفْسُدَ تَصَدَّقَ بِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهَا.
وَفِي الْجَامِعِ: فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الْوُصُولِ إلَى صَاحِبِهَا، وَإِنْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ شَيْئًا يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا كَالنَّوَاةِ وَقُشُورِ الرُّمَّانِ يَكُونُ إلْقَاؤُهُ إبَاحَةً حَتَّى جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ وَلَكِنَّهُ مُبْقًى عَلَى مِلْكِ مَالِكِهِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ.
قَالَ (فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهَا) إيصَالًا لِلْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَهُوَ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَذَلِكَ بِإِيصَالِ عَيْنِهَا عِنْدَ الظَّفَرِ بِصَاحِبِهَا وَإِيصَالِ الْعِوَضِ وَهُوَ الثَّوَابُ عَلَى اعْتِبَارِ إجَازَةِ التَّصَدُّقِ بِهَا، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا رَجَاءَ الظُّفْرِ بِصَاحِبِهَا قَالَ (فَإِنْ) (جَاءَ صَاحِبُهَا) يَعْنِي بَعْدَمَا تَصَدَّقَ بِهَا (فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْضَى الصَّدَقَةَ) وَلَهُ ثَوَابُهَا لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وَإِنْ حَصَلَ بِإِذْنِ الشَّرْعِ لَمْ يَحْصُلْ بِإِذْنِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ، وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْفَقِيرِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قِيَامِ الْمَحِلِّ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ لِثُبُوتِهِ بَعْدَ الْإِجَازَةِ فِيهِ (وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُلْتَقِطُ لِأَنَّهُ سَلَّمَ مَالَهُ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ) إلَّا أَنَّهُ بِإِبَاحَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الضَّمَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَمَا فِي تَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمِسْكِينُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا أَخَذَهُ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ، فَإِنَّ الطَّحَاوِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: وَإِذَا الْتَقَطَ لُقَطَةً فَإِنَّهُ يُعَرِّفُهَا سَنَةً سَوَاءٌ كَانَ الشَّيْءُ نَفِيسًا أَوْ خَسِيسًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَقَوْلُهُ (كَانَتْ مِائَةَ دِينَارٍ تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ) يُرِيدُ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الصَّحِيحِ مُسْنَدًا إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «أَخَذْت صُرَّةً مِائَةَ دِينَارٍ، فَأَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا، فَعَرَّفْتهَا فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، ثُمَّ أَتَيْته ثَانِيًا فَقَالَ عَرِّفْهَا حَوْلًا، فَعَرَّفْتهَا فَلَمْ أَجِدْ، ثُمَّ أَتَيْته ثَالِثًا فَقَالَ: احْفَظْ وِعَاءَهَا وَوِكَاءَهَا وَعَدَدَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا».
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.
وَأَقُولُ: هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ يَكُونُ حَوْلَيْنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَرْطٍ بِالْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ سَاقِطَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ وَقَوْلُهُ (وَقِيلَ الصَّحِيحُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ) إشَارَةٌ إلَى مَا اخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ (كَالنَّوَاةِ وَقُشُورِ الرُّمَّانِ) يَعْنِي إذَا كَانَ فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ فَجَمَعَهَا وَصَارَ بِحُكْمِ الْكَثْرَةِ لَهَا قِيمَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا لِأَنَّ الْقِيمَةَ ظَهَرَتْ بِالِاجْتِمَاعِ وَالِاجْتِمَاعُ حَصَلَ بِصُنْعِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا، حَتَّى أَنَّ صَاحِبَهَا إذَا وَجَدَهَا فِي يَدِهِ بَعْدَمَا جَمَعَهَا جَازَ أَنْ يَأْخُذَهَا لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ مُتَفَرِّقًا دَلِيلٌ عَلَى الْإِذْنِ لَا عَلَى التَّمْلِيكِ، لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ.
ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُجْتَمِعَةً فِي مَوْضِعٍ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمَّا جَمَعَهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَا أَلْقَاهَا (قَوْلُهُ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا تَصَدَّقْ بِهَا) يَعْنِي إنْ جَاءَ صَاحِبُهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ دَفَعَهَا إلَيْهِ أَيْضًا لَا لِعَيْنِ حَقِّهِ الْمُسْتَحَقِّ الدَّفْعُ إلَيْهِ كَمَا فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَجِئْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ (إنْ شَاءَ) تَصَدَّقَ بِهَا أَيْضًا لَا لِعِوَضِ الْمُسْتَحَقِّ وَهُوَ الثَّوَابُ عَلَى اعْتِبَارِ إجَازَتِهِ التَّصَدُّقَ بِهَا عَلَى مُسْتَحِقِّهِ (وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا رَجَاءً) لِلظَّفَرِ بِصَاحِبِهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا بَعْدَمَا تَصَدَّقَ بِهَا الْمُلْتَقِطُ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَمْضَى الصَّدَقَةَ وَلَهُ ثَوَابُهَا لِأَنَّ التَّصَدُّقَ إنْ حَصَلَ بِإِذْنِ الشَّرْعِ لَمْ يَحْصُلْ بِإِذْنِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ التَّوَقُّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ يَقْتَضِي قِيَامَ الْمَحَلِّ عِنْدَهَا كَمَا فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ؛ حَتَّى لَوْ أَجَازَ الْمَالِكُ بَعْدَ هَلَاكِهَا صَحَّتْ الْإِجَازَةُ.
وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْفَقِيرِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لِأَنَّ الْمُلْتَقِطَ لَمَّا كَانَ مَأْذُونًا فِي التَّصَدُّقِ شَرْعًا مَلَكَ الْفَقِيرُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ ثُبُوتُ الْمِلْكِ عَلَى وُجُودِ الْمَحَلِّ عِنْدَ الْإِجَازَةِ: فَإِنْ قِيلَ: لَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْفَقِيرِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لَمَا ثَبَتَ لِلْمَالِكِ حَقُّ الْأَخْذِ إذَا كَانَ قَائِمًا فِي يَدِ الْفَقِيرِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِرْدَادِ كَالْوَاهِبِ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَكَالْمُرْتَدِّ إذَا عَادَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا بَعْدَمَا قُسِمَتْ أَمْوَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مَا وَجَدَهُ قَائِمًا بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُمْ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ فَإِنَّ الْمِلْكَ فِيهِ لِلْمُشْتَرِي إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ إجَازَةِ الْمَالِكِ بَيْعَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْمَحَلِّ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ الْمَعْدُومَةِ وَكَمَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمَحَلِّ يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَالْمَالِكِ أَيْضًا، وَسَيَجِيءُ تَمَامُهُ فِي الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُلْتَقِطَ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ تَضْمِينُهُ وَقَدْ تَصَدَّقَ بِهَا بِإِذْنِ الشَّرْعِ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (إلَّا أَنَّهُ بِإِبَاحَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ) يَعْنِي أَنَّ الْإِذْنَ كَانَ إبَاحَةً مِنْهُ لَا إلْزَامًا، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْإِذْنِ يُسْقِطُ الْإِثْمَ وَلَا يُنَافِي الضَّمَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَمَا فِي تَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ (وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمِسْكِينَ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ (وَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ قَائِمَةً أَخَذَهَا لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ) وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَالِكَ إنْ لَمْ يُجِزْ الصَّدَقَةَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ قَائِمَةً فِي يَدِ الْفَقِيرِ أَوْ هَالِكَةً، فَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً أَخَذَهَا، وَإِنْ كَانَتْ هَالِكَةً فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُلْتَقِطَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْفَقِيرَ، وَأَيَّهُمَا ضَمَّنَهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ضَامِنٌ بِفِعْلِهِ: الْمُلْتَقِطُ بِالتَّسْلِيمِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ وَالْفَقِيرُ بِالتَّسْلِيمِ بِدُونِهِ.
لَا يُقَالُ: الْفَقِيرُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَةِ الْمُلْتَقِطِ فَيُرْجَعُ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّغْرِيرَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ضِمْنِ عَقْدٍ لَا يُوجِبُ شَيْئًا. قَالَ (وَيَجُوزُ الِالْتِقَاطُ فِي الشَّاةِ وَالْبَقَرِ وَالْبَعِيرِ) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إذَا وُجِدَ الْبَعِيرُ وَالْبَقَرُ فِي الصَّحْرَاءِ فَالتَّرْكُ أَفْضَلُ.
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْفَرَسُ.
لَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ الْحُرْمَةُ وَالْإِبَاحَةُ مَخَافَةَ الضَّيَاعِ، وَإِذَا كَانَ مَعَهَا مَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا يَقِلُّ الضَّيَاعُ وَلَكِنَّهُ يُتَوَهَّمُ فَيَقْضِي بِالْكَرَاهَةِ وَالنَّدْبُ إلَى التَّرْكِ.
وَلَنَا أَنَّهَا لُقَطَةٌ يُتَوَهَّمُ ضَيَاعُهَا فَيُسْتَحَبُّ أَخْذُهَا وَتَعْرِيفُهَا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ كَمَا فِي الشَّاةِ (فَإِنْ أَنْفَقَ الْمُلْتَقِطُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ) لِقُصُورِ وِلَايَتِهِ عَنْ ذِمَّةِ الْمَالِكِ، وَإِنْ أَنْفَقَ بِأَمْرِهِ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةً فِي مَالِ الْغَائِبِ نَظَرًا لَهُ وَقَدْ يَكُونُ النَّظَرُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ (وَإِذَا رُفِعَ ذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ نَظَرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ لِلْبَهِيمَةِ مَنْفَعَةٌ آجَرَهَا وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ أُجْرَتِهَا) لِأَنَّ فِيهِ إبْقَاءَ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ إلْزَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالْعَبْدِ الْآبِقِ (وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا مَنْفَعَةٌ وَخَافَ أَنْ تَسْتَغْرِقَ النَّفَقَةُ قِيمَتَهَا بَاعَهَا وَأَمَرَ بِحِفْظِ ثَمَنِهَا) إبْقَاءً لَهُ مَعْنًى عِنْدَ تَعَذُّرِ إبْقَائِهِ صُورَةً (وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا أَذِنَ فِي ذَلِكَ وَجَعَلَ النَّفَقَةَ دَيْنًا عَلَى مَالِكِهَا) لِأَنَّهُ نَصَبَ نَاظِرًا وَفِي هَذَا نَظَرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، قَالُوا: إنَّمَا يَأْمُرُ بِالْإِنْفَاقِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى رَجَاءَ أَنْ يَظْهَرَ مَالِكُهَا، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ يَأْمُرُ بِبَيْعِهَا لِأَنَّ دَارَّةَ النَّفَقَةِ مُسْتَأْصَلَةٌ فَلَا نَظَرَ فِي الْإِنْفَاقِ مُدَّةً مَدِيدَةً.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَفِي الْأَصْلِ شَرْطُ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَصْبًا فِي يَدِهِ فَلَا يَأْمُرُ فِيهِ بِالْإِنْفَاقِ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ فِي الْوَدِيعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ لِكَشْفِ الْحَالِ وَلَيْسَتْ الْبَيِّنَةُ تُقَامُ لِلْقَضَاءِ.
وَإِنْ قَالَ لَا بَيِّنَةَ لِي بِقَوْلِ الْقَاضِي لَهُ أَنْفِقْ عَلَيْهِ إنْ كُنْت صَادِقًا فِيمَا قُلْت حَتَّى تَرْجِعَ عَلَى الْمَالِكِ إنْ كَانَ صَادِقًا، وَلَا يَرْجِعُ إنْ كَانَ غَاصِبًا.
وَقَوْلُهُ (فِي الْكِتَابِ وَجَعَلَ النَّفَقَةَ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى الْمَالِكِ بَعْدَ مَا حَضَرَ وَلَمْ تُبَعْ اللُّقَطَةُ إذَا شَرَطَ الْقَاضِي الرُّجُوعَ عَلَى الْمَالِكِ، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
قَالَ (وَإِذَا حَضَرَ) يَعْنِي (الْمَالِكُ فَلِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ حَتَّى يُحْضِرَ النَّفَقَةَ) لِأَنَّهُ حَيٌّ بِنَفَقَتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْمِلْكَ مِنْ جِهَتِهِ فَأَشْبَهَ الْمَبِيعَ؛ وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ رَادُّ الْآبِقِ فَإِنَّ لَهُ الْحَبْسَ لِاسْتِيفَاءِ الْجُعَلِ لِمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ لَا يَسْقُطُ دَيْنُ النَّفَقَةِ بِهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ قَبْلَ الْحَبْسِ، وَيَسْقُطُ إذَا هَلَكَ بَعْدَ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْحَبْسِ شَبِيهَ الرَّهْنِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَيَجُوزُ الِالْتِقَاطُ فِي الشَّاةِ وَالْبَقَرِ وَالْبَعِيرِ) ظَاهِرٌ سِوَى أَلْفَاظٍ نَذْكُرُهَا.
وَقَوْلُهُ (وَالْإِبَاحَةُ) أَيْ إبَاحَةُ الْأَخْذِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا كَانَ مَعَهَا) أَيْ مَعَ اللُّقَطَةِ مَا تَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهَا: يَعْنِي مَا يُهْلِكُهَا كَالْقَرْنِ فِي الْبَقَرِ وَزِيَادَةِ الْقُوَّةِ فِي الْبَعِيرِ بِكَدْمِهِ وَنَفْحِهِ وَكَذَلِكَ فِي الْفَرَسِ.
وَقَوْلُهُ (فَيُقْضَى بِالْكَرَاهَةِ) أَيْ كَرَاهَةِ الْأَخْذِ.
وَقَوْلُهُ (وَفِي هَذَا نَظَرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ) أَيْ مِنْ جَانِبِ الْمَالِكِ بِإِبْقَاءِ عَيْنِ مَالِهِ، وَمِنْ جَانِبِ الْمُلْتَقِطِ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْمَالِكِ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى اللُّقَطَةِ.
وَقَوْلُهُ (فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ يَأْمُرُهُ بِبَيْعِهَا) قِيلَ فَإِذَا أَمَرَ بِبَيْعِهَا فَبِيعَتْ أَعْطَى الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ مَا أَنْفَقَ بِأَمْرِهِ فِي الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَالُ صَاحِبِهَا وَالنَّفَقَةُ دَيْنٌ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مَعْلُومٌ لِلْقَاضِي فَيُعِينُهُ عَلَى أَخْذِ حَقِّهِ، لِأَنَّ الْغَرِيمَ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَكَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يُعِينَهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (وَفِي الْأَصْلِ شَرْطُ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ) يَعْنِي أَنَّ الْمُلْتَقِطَ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الدَّابَّةَ لُقَطَةٌ عِنْدَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: الْبَيِّنَةُ إنَّمَا تُقَامُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُنْكِرِ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ هُنَا.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَلَيْسَتْ تُقَامُ لِلْقَضَاءِ) أَيْ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ تُقَامُ لِاسْتِكْشَافِ الْحَالِ بِأَنَّهُ لُقَطَةٌ لَا لِلْقَضَاءِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ قَالَ لَا بَيِّنَةَ لِي) أَيْ الْمُلْتَقِطُ قَالَ لَا بَيِّنَةَ لِي عَلَى أَنَّهَا لُقَطَةٌ عِنْدِي وَلَكِنَّهَا لُقَطَةٌ يَقُولُ الْقَاضِي لِلْمُلْتَقِطِ أَنْفِقْ عَلَيْهَا إنْ كُنْت صَادِقًا فِيمَا قُلْت، وَإِنَّمَا يَقُولُ بِهَذَا التَّرْدِيدِ حَذَرًا عَنْ لُزُومِ أَحَدِ الضَّرَرَيْنِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَمَرَ قَطْعًا تَضَرَّرَ الْمَالِكُ بِسُقُوطِ الضَّمَانِ عَلَى تَقْدِيرِ الْغَصْبِ، وَلَوْ لَمْ يَأْمُرْ تَضَرَّرَ الْمُلْتَقِطُ عَلَى تَقْدِيرِ اللُّقَطَةِ وَقَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ (إذَا شَرَطَ الْقَاضِي الرُّجُوعَ عَلَى الْمَالِكِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إنَّمَا يَرْجِعُ: أَيْ إنَّمَا يَرْجِعُ الْمُلْتَقِطُ عَلَى الْمَالِكِ إذَا شَرَطَ الْقَاضِي الرُّجُوعَ عَلَى الْمَالِكِ، وَهَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي مَسَائِلِ اللَّقِيطِ بِقَوْلِهِ وَالْأَصَحُّ أَنْ يَأْمُرَ الْقَاضِي الْمُلْتَقِطَ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنْ يَكُونَ دَيْنًا عَلَى اللَّقِيطِ، فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ عَلَى اللَّقِيطِ وَإِلَّا فَلَا، فَهَذَا احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا إنَّ مُجَرَّدَ أَمْرِ الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ يَكْفِي لِلرُّجُوعِ.
قَالَ (وَإِذَا حَضَرَ: يَعْنِي الْمَالِكَ) كَلَامُهُ ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ حَيٌّ بِنَفَقَتِهِ، يُقَالُ نَشَدْت الضَّالَّةَ: أَيْ عَرَّفْتهَا، وَأَنْشَدْتهَا: أَيْ طَلَبْتهَا.
وَمَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ «لَا تَحِلُّ لُقَطَةُ مَكَّةَ إلَّا لِمُنْشِدِهَا» أَيْ طَالِبِهَا، وَهُوَ الْمَالِكُ عِنْدَهُ وَالْمُعَرَّفُ عِنْدَنَا الْعِفَاصُ وَهُوَ الْوِعَاءُ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ النَّفَقَةُ مِنْ جِلْدٍ أَوْ خِرْقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَالْوِكَاءُ الرِّبَاطُ، يُقَالُ أَوْكَى السِّقَاءَ: شَدَّهُ بِالْوِكَاءِ وَهُوَ الرِّبَاطُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ. قَالَ (وَلُقَطَةُ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ سَوَاءٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ التَّعْرِيفُ فِي لُقَطَةِ الْحَرَمِ إلَى أَنْ يَجِيءَ صَاحِبُهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَرَمِ «وَلَا يَحِلُّ لُقَطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ» وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّهَا لُقَطَةٌ، وَفِي التَّصَدُّقِ بَعْدَ مُدَّةِ التَّعْرِيفِ إبْقَاءُ مِلْكِ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ فَيَمْلِكُهُ كَمَا فِي سَائِرِهَا، وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِالْتِقَاطُ إلَّا لِلتَّعْرِيفِ، وَالتَّخْصِيصُ بِالْحُرْمِ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ التَّعْرِيفُ فِيهِ لِمَكَانِ أَنَّهُ لِلْغُرَبَاءِ ظَاهِرًا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (إبْقَاءُ مِلْكِ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ تَحْصِيلُ الثَّوَابِ (فَيَمْلِكُهُ كَمَا فِي سَائِرِهَا) أَيْ فِي سَائِرِ اللُّقَطَاتِ (وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ) مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدِهَا» أَيْ لَا يَحِلُّ الْتِقَاطُهَا إلَّا لِلتَّعْرِيفِ.
فَإِنْ قِيلَ مَا وَجْهُ تَخْصِيصِ هَذَا الْمَعْنَى بِالْحَرَمِ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالتَّخْصِيصُ بِالْحَرَمِ) وَبَيَانُهُ أَنَّ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى مَكَانُ الْغُرَبَاءِ، لِأَنَّ النَّاسَ يَأْتُونَ إلَيْهَا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ثُمَّ يَتَفَرَّقُونَ بِحَيْثُ يَنْدُرُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلْغُرَبَاءِ لَا يُظَنُّ عَوْدُهُمْ فِي سَنَةٍ وَأَكْثَرَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ التَّعْرِيفُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، فَأَزَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الْوَهْمَ بِقَوْلِهِ «لَا يَحِلُّ رَفْعُ لُقَطَتِهَا إلَّا لِمُعَرِّفِهَا» كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْبِلَادِ. (وَإِذَا حَضَرَ رَجُلٌ فَادَّعَى اللُّقَطَةَ لَمْ تُدْفَعْ إلَيْهِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ.
فَإِنْ أَعْطَى عَلَامَتَهَا حَلَّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ).
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: يُجْبَرُ، وَالْعَلَامَةُ مِثْلُ أَنْ يُسَمِّيَ وَزْنَ الدَّرَاهِمِ وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا.
لَهُمَا أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ يُنَازِعُهُ فِي الْيَدِ وَلَا يُنَازِعُهُ فِي الْمِلْكِ، فَيُشْتَرَطُ الْوَصْفُ لِوُجُودِ الْمُنَازَعَةِ مِنْ وَجْهٍ، وَلَا تُشْتَرَطُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ لِعَدَمِ الْمُنَازَعَةِ مِنْ وَجْهٍ.
وَلَنَا أَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ كَالْمِلْكِ فَلَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ وَهُوَ الْبَيِّنَةُ اعْتِبَارًا بِالْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الدَّفْعُ عِنْدَ إصَابَةِ الْعَلَامَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَعَرَفَ عِفَاصَهَا وَعَدَدَهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ» وَهَذَا لِلْإِبَاحَةِ عَمَلًا بِالْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» الْحَدِيثَ وَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا إذَا كَانَ يَدْفَعُهُ إلَيْهِ اسْتِيثَاقًا، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْكَفِيلَ لِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ التَّكْفِيلِ لِوَارِثٍ غَائِبٍ عِنْدَهُ.
وَإِذَا صُدِّقَ قِيلَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ كَالْوَكِيلِ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ إذَا صَدَّقَهُ.
وَقِيلَ يُجْبَرُ لِأَنَّ الْمَالِكَ هَاهُنَا غَيْرُ ظَاهِرٍ وَالْمُودِعُ مَالِكٌ ظَاهِرًا، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِاللُّقَطَةِ عَلَى غَنِيٍّ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ التَّصَدُّقُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «فَإِنْ لَمْ يَأْتِ» يَعْنِي صَاحِبَهَا، «فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ» وَالصَّدَقَةُ لَا تَكُونُ عَلَى غَنِيٍّ فَأَشْبَهَ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ (وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ غَنِيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ أُبَيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَانْتَفِعْ بِهَا» وَكَانَ مِنْ الْمَيَاسِيرِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُبَاحُ لِلْفَقِيرِ حَمْلًا لَهُ عَلَى رَفْعِهَا صِيَانَةً لَهَا وَالْغَنِيُّ يُشَارِكُهُ فِيهِ.
وَلَنَا مَالُ الْغَيْرِ فَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِرِضَاهُ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ وَالْإِبَاحَةُ لِلْفَقِيرِ لِمَا رَوَيْنَاهُ، أَوْ بِالْإِجْمَاعِ فَيَبْقَى مَا وَرَاءَهُ عَلَى الْأَصْلِ، وَالْغَنِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَخْذِ لِاحْتِمَالِ افْتِقَارِهِ فِي مُدَّةِ التَّعْرِيفِ، وَالْفَقِيرُ قَدْ يَتَوَانَى لِاحْتِمَالِ اسْتِغْنَائِهِ فِيهَا وَانْتِفَاعُ أُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَهُوَ جَائِزٌ بِإِذْنِهِ (وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ فَقِيرًا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا) لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلِهَذَا جَازَ الدَّفْعُ إلَى فَقِيرٍ غَيْرِهِ (وَكَذَا إذَا كَانَ الْفَقِيرُ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ غَنِيًّا) لِمَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لَهُمَا) أَيْ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، حَاصِلُهُ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ مُنَازَعٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيُكْتَفَى فِي الْحُجَّةِ بِذِكْرِ الْوَصْفِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ (وَلَنَا أَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ كَالْمِلْكِ) بِدَلِيلِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي غَصْبِ الْمُدَبَّرِ بِاعْتِبَارِ إزَالَةِ الْيَدِ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّقْلِ مِلْكًا.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ هَذَا الْحَدِيثُ الْأَمْرُ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَادْفَعْهَا (لِلْإِبَاحَةِ) أَيْ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ (لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِالْمَشْهُورِ) وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَحُمِلَ عَلَى الْوُجُوبِ لَزِمَ التَّعَارُضُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلتَّرْكِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْحَمْلُ عَلَى الْإِبَاحَةِ عَمَلًا بِالْمَشْهُورِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ جَوَازِ الرَّفْعِ أَيْضًا، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْوُجُوبِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْجَوَازِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ بِانْتِفَاءِ الْجَوَازِ لِانْتِفَاءِ الْوُجُوبِ، وَالْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَاهُنَا فِي مَقَامِ الرَّفْعِ فَجَازَ أَنْ يَدْفَعَهُ عَلَى طَرِيقٍ يَلْتَزِمُهُ الْخَصْمُ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْكَفِيلِ لِوَارِثٍ غَائِبٍ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنَّمَا وَرَدَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ ذِكْرٌ لِشُهْرَةِ حُكْمِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، هَذَا إذَا دَفَعَ اللُّقَطَةَ بِذِكْرِ الْعَلَامَةِ، أَمَّا إذَا دَفَعَهَا بِإِقَامَةِ الْحَاضِرِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا لَهُ فَفِي أَخْذِ الْكَفِيلِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ كَفِيلًا.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمَالِكَ هَاهُنَا غَيْرُ ظَاهِرٍ) يَعْنِي فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ هُوَ الَّذِي حَضَرَ، فَلَمَّا أَقَرَّ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ كَانَ إقْرَارُهُ مُلْزِمًا لِلدَّفْعِ إلَيْهِ (وَأَمَّا الْمُودِعُ فَإِنَّهُ مَالِكٌ ظَاهِرًا) فَبِالْإِقْرَارِ بِالْوَكَالَةِ لَا يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ بِيَقِينٍ، ثُمَّ فِي الْوَدِيعَةِ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ بَعْدَمَا صَدَّقَهُ وَهَلَكَ فِي يَدِهِ ثُمَّ حَضَرَ الْمُودِعُ وَأَنْكَرَ الْوَكَالَةَ وَضَمِنَ الْمُودَعَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ وَهَاهُنَا لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَابِضِ لِأَنَّ هُنَاكَ فِي زَعْمِ الْمُودِعِ أَنَّ الْوَكِيلَ عَامِلٌ لِلْمُودِعِ فِي قَبْضِهِ لَهُ بِأَمْرِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِضَامِنٍ بَلْ الْمُودِعُ ظَالِمٌ فِي تَضْمِينِهِ إيَّاهُ، وَمَنْ ظُلِمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ وَهَاهُنَا فِي زَعْمِهِ أَنَّ الْقَابِضَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ ضَامِنٌ بَعْدَمَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِغَيْرِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا ضَمِنَ بِهَذَا، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.
وَقَوْلُهُ (وَكَانَ مِنْ الْمَيَاسِيرِ) أَيْ الْأَغْنِيَاءِ جَمْعُ الْمَيْسُورِ ضِدُّ الْمَعْسُورِ.
وَقَوْلُهُ (حَمْلًا لَهُ عَلَى رَفْعِهَا) أَيْ لِيَكُونَ حَامِلًا (وَبَاعِثًا عَلَى رَفْعِهَا) وَقَوْلُهُ (لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ) يُرِيدُ بِهِ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} إلَخْ وقَوْله تَعَالَى {وَلَا تَعْتَدُوا} وَقَوْلُهُ {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (قَوْلُهُ وَالْإِبَاحَةُ لِلْفَقِيرِ لِمَا رَوَيْنَاهُ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ» (قَوْلُهُ وَالْغَنِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَخْذِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُبَاحُ لِلْفَقِيرِ (حَمْلًا لَهُ عَلَى رَفْعِهَا).
وَقَوْلُهُ (وَانْتِفَاعُ أُبَيِّ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِهِ بِحَدِيثِ أُبَيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ جَائِزٌ) أَيْ الِانْتِفَاعُ لِلْغَنِيِّ جَائِزٌ بِإِذْنِ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ) يَعْنِي نَظَرَ الثَّوَابِ لِلْمَالِكِ وَنَظَرَ الِانْتِفَاعِ لِلْمُلْتَقِطِ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.